أحدث المواضيع

بحث في المدونة

الخميس، 15 مارس 2012

الجزائريون والطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي ، فرانز فانون


الطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي الفرنسي
 الشهير، فرانز فانون. وُلد فانون في العشرين من يوليو عام 1925 في جزر المارتينيك الكاريبية، حاملاً بشرته السوداء التي لعبت دوراً كبيراً في كتاباته اللاحقة. وفيما بعد ذهب للجزائر عاملاً ضمن صفوف القوات الفرنسية، حيث بدأ يستشعر ذلك الاستعلاء الذي يمارسه الجنود الفرنسيون على غيرهم من الجنود السود، إضافة لحجم العدوانية والعنف الهائل الذي يمارسونه ضد سكان البلاد الأصليين. ولقد توفي فانون عن عمر قصير بعد صراع مع لوكيميا الدم عام 1961.
منحت تجربة الانتقال للجزائر فانون درجة كبيرة من الوعي بالممارسات العنيفة والدموية التي يمارسها المستعمرون بكسر الميم على المستعمرين بفتح الميم. ويمكن القول بأن أهم ميزة لكتابات فانون تنبع من كونها قد جاءت مشمولة بالممارسات الناجمة عن انخراطه في الجيش الفرنسي من ناحية، وفي صفوف جبهة التحرير الجزائرية فيما بعد من ناحية أخرى. فلم تكن كتابات فانون وليدة تنظير مجرد مجافي للواقع ولطبيعة العلاقة بين المستعمِرين والمستعمَرين، لكنها جاءت نتاجاً لوضعية فانون السوداء، وخبراته في الجيش الفرنسي، وكطبيب نفسي وعضو فاعل في حركة التحرير الجزائرية. إضافة لتنقلاته في شمال أفريقيا، وفي الكثير من الدول الأفريقية الأخرى، مشاهداً ومتابعاً لنشأة وتطور حركات التحرر المختلفة في كافة أرجاء القارة.
جاءت كتابات فانون ممثلة لمرحلة التحرير التي شملت العديد من المستعمرات في آسيا وأفريقيا. فبعد الحرب العالمية الثانية استطاعت العديد من المستعمرات السابقة الحصول على استقلالها بحيث أضحى خطاب التحرير وفك الاشتباك مع المستعمرين السابقين مسألة رائجة في فترة مابعد الحرب العالمية الثانية. ولم تكن المسألة ترتبط فقط بتوصيف الاستعمار وتفسيره، لكنها تعدت ذلك إلى العمل على التخلص منه وسبل مواجهته. وفي هذا السياق، يمكن وضع كتابات فانون ودوره التاريخي كمثقف ينتمي بالأساس إلى دول العالم الثالث، جاءت كتاباته تعبيراً عن مرحلة مابعد الاستقلال والكيفية التي تمت بها مواجهة المستعمرين السابقين.
ويمكن القول بأن أهم كتابين ظهرا لفانون هما "بشرة سوداء وأقنعة بيضاء" و "معذبو الأرض"، حيث صدر الأول في عام 1952، بينما صدر الثاني في عام 1961 قبيل وفاته بأيام قليلة. في الكتاب الأول يتناول فانون مسألة على درجة كبيرة من الأهمية تتمثل في تحليله العميق للظاهرة الاستعمارية من الداخل بوصفه محللاً نفسياً. لقد مكنه التفسير النفسي للظاهرة الاستعمارية من التوقف عند التأثيرات التي يحدثها الخضوع للمستعمِر على نفسية المستعمَرين بفتح الميم. والدور الهائل الذي يقوم به المستعمِر في مسخ المستعمَرين وتيسير خضوعهم له. فالمستعمِر يفرض قواه العقلية والفكرية على المستعمَرين الخاضعين له، بما يجعلهم يؤمنون في النهاية بأهمية هذا المستعمِر وحتمية خضوعهم له. وهىعملية ليست وليدة لحظة الاحتلال، لكنها عملية طويلة ومتواصلة من أجل تأمين خضوع الشعوب المستعمَرة للغزاة المتوحشين أصحاب البشرة البيضاء والأقفية الحمراء. والتحليل النفسي هنا يتم في ضوء ربط المعاناة الفردية للخاضعين في ضوء السياق الاجتماعي الأشمل الذي يشملهم من خلال هيمنة المستعمِرين الغاصبين. فالمسألة لا تتعلق بدراسة حالات فردية منفصلة بقدر ما تتعلق بإيجاد رابط اجتماعي سياقي عام يربط هذه الحالات، وهو هنا مستوى العنف والوحشية الممارسة ضد هؤلاء المواطنين المحتلين.
وهنا يأتي الكتاب الثاني الذي يكمل التحليلات التي انطلق منها فانون في كتابه الأول، حيث يتعمق فانون أكثر في دراسة الظاهرة الاستعمارية من خلال توقفه عند ظاهرة محددة وهامة ألا وهى ممارسة العنف ضد المستعمِرين، بشكلٍ منظم وممنهج ويومي. وفي هذا السياق، يركز فانون على جملة الممارسات الدموية العنيفة التي مارسها الاستعمار الفرنسي ضد الجزائريين طوال فترة الاحتلال. فمن خلال العديد من الحالات التي قابلها فانون استطاع أن يبين حجم التأثيرات السلبية الهائلة التي أحدثتها ممارسات العنف الاستعمارية على البنية النفسية للجزائريين المقموعين الذين تعرضوا لعمليات طويلة ومتواصلة من التعذيب المنظم.
وتنبع أهمية هذا الكتاب "معذبوا الأرض" من أنه لا يكتفي فقط بتشريح بنية العنف الاستعمارية، لكنه يشرح أيضاً وبالتفصيل ذاته الكيفية التي يجب بها مقاومة هذا العنف الاستعماري. يبين فانون أن المسئول عن ثقافة العنف هو المستعمِر، فهو الذي يخلق مناخاً عاماً من الممارسات العنيفة الوحشية، ويجد التبريرات المختلفة اليومية للقتل والتدمير. من هنا، فإن المستعمَرين لا يجب أن يلاموا على العنف الذي يمارسونه ضد المستعمِرين بكسر الميم؛ فما اكتسبوه من ممارسات عنيفة قد تولد كرد فعل لما يواجهونه على أيدي الجلادين المستعمِرين لهم. ويؤكد فانون في معرض تحليله للممارسات العنيفة والدموية الاستعمارية على أهمية دور الثقافة الوطنية في مواجهة الثقافة الاستعمارية، لذلك مزج فانون في تفسيراته بين التحليل النفسي والأنثروبولوجيا والاجتماع والسياسة، كما منح اللغة دوراً هاماً وكبيراً في تحليلاته للممارسات الاستعمارية العنيفة، بوصفها الأداة الهامة والأكثر تأثيراً في مقاومة ثقافة الهيمنة الاستعمارية التي يفرضها المحتلون على الخاضعين لهم.
يمنح فانون الثقافة أهمية كبيرة، من أجل خلق الاجماع الوطني الداخلي في مواجهة الاستعمار، ومحاولاته المتواصلة من أجل بث الشقاق والتشظي الداخلي. لا ينبع اهتمام فانون بالثقافة من فراغ بقدر ما ينبع من كونها نقطة الانطلاق لتحليل ممارسات المثقفين. فبينما يرى فانون أن البشر العاديين يمارسون حياتهم اليومية، بعاديتها وروتينيتها، بدون أن ينجذبوا إلى ثقافة المستعمِر ويتعاملون معها، فإن المثقفين هم الأكثر عرضة وتأثراً بالمستعمِرين من جانب والمتعاملين معهم والمبررين لسلوكياتهم الاجرامية والعنيفة من جانب آخر. فالمستعمِر حينما يعمد إلى ضرب الثقافة الوطنية يعمد أولاً إلى خلق الشقاق والتمزق والتفتت بين المثقفين، ومن خلال هذا التفتت يمكنه أن يخترق عناصر الثقافة الوطنية، بما يخلق له الشرعية لممارسة العنف، ومواصلته ضد المواطنين المحليين. وهو هنا، أى المستعمِر، حينما يخترق الثقافة الوطنية، فإنه يخترقها من خلال هؤلاء المثقفين المحليين الذين يقبلون خطاباته ويستدمجونها ويروجون لها، فتصبح ممارساته الدموية شرعية، ووحشيته المفرطة مبررة.
لا يقف فانون سلبياً أم ظاهرة العنف الاستعماري ضد المواطنين المحتلين، لكنه يتعدى ذلك إلى طرح أطر وممارسات للمواجهة، تتمثل في ضرورة ممارسة العنف ضد المستعمِر وضد ممارساته الوحشية. ففي اللحظة التي يمارس فيها المحتلون العنف ضد محتليهم، فإنهم يحققون أنفسهم من خلال مواجهتهم للعنف الاستعماري، كما أنهم يحققون ذلك التطهير النفسي الذي ينهي حالة الخوف والدونية أمام المستعمِرين. لا يقدم فانون حلولاً سلمية قائمة على خطابات التسامح والتعايش والسلام على الطريقة الغاندية، قدر ما يقدم من خلال تحليلاته النفسية العميقة تلك الدعوات القائمة على ضرورة مواجهة العنف بالعنف لتحقيق المعادلة الإنسانية في حياة المظلومين المقهورين، وتحقيق ذلك القدر من الثقة بالذات والإيمان بها.
إن الهدف هنا يتمثل في العمل على خلق الإنسان الجديد والوعى الأسود في مرحلة ما بعد التحرير من أجل خلق أفريقيا جديدة موحدة ومتماسكة وخالية من النفوذ الاستعماري الوحشي على مقدرات القارة السوداء. وهو الهدف الذي تحقق في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لفترة محدودة من الزمن، فيما ظهر من خلال المشاريع الثورية في القارة السوداء التي ارتبطت بأسماء لومومبا وناصر وغيرهما من الأسماء اللامعة في عالم التغييرات الثورية. وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى حجم التأثيرات الهائلة التي مارستها كتابات فانون على العديد من المفكرين الكبار فيما بعد، أمثال على شريعتي في إيران وستيف بيكو في جنوب أفريقيا، وارنستو جيفارا في كوبا، وإن كان كل منهم قد فهم كتابات فانون، وتعامل معها على طريقته الخاصة في العمل الثوري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Translate ترجمة المدونة

English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

^ أعلى الصفحة